الثلاثاء، 12 فبراير 2013

الشقـاف المخطـوط بأبـي نجيـم


الشقـاف المخطـوط بأبـي نجيـم
إعـداد : روبير مارشال . 
ترجمة مختصرة للملحق السابع لمجلة ليبيا القديمة والذى نشر باللغة الفرنسية تحت عنوان " شقاف ابو نجيم" 1992م. 
ترجمـة د. محمّد علي عيسى أبو القاسم /أمين تحرير مجلّة ليبيا القديمة.

     عرض البروفسّور رينيه ريبوفا خلال ثلاث دورات متتالية من دورات الأكاديميّة الفرنسيّة نتائج ثماني حفريات قام بها في المعسكر الرّوماني في مدينة "جولا" على تخوم مدينة أبي نجيم الحاليّة. وقد أشار البروفسّور ريبوفا إلى هذه النّتائج عدّة مرّات أخرى خلال اللّقاءات العلميّة التي كانت تعقد لمناقشة موضوع الشقاف المخطوط.
     يبلغ عدد هذا الشقاف حالياً 146 قطعة. اكتشفت المجموعة الأولى منه عام 1967م، لكنّ الكمية الكبيرة من هذا الشقاف اكتشفت عام 1971م. وقد اكتشفت آخر مجموعة منه عام 1976م. وقد انتهيت في الوقت الحاضر من إعداد المادّة العلميّة للنّشر وعلقت عليها بالشّروح اللاّزمة، وسأقدّم لكم في هذه الصّفحات النّتائج الرّئيسيّة لهذه الدّراسة الهامّة.
     استطاع رينيه ريبوفا من خلال دراساته السّابقة للنّقوش أن يثبت أنّ استيطان الرّومان بمدينة أبي نجيم بدأ عام 201م، ومنذ عام 201م وحتّى عام 237م، أقامت بالمنطقة حامية عسكريّة رومانيّة قوامها لواء روماني من الفرقة الأغسطيّة الثّالثة وفرقة من الفرسان تحت قيادة قائد المائة، إلاّ أنّه بعد حلّ الفرقة الأغسطيّة الثّالثة عام 238م لم يبق بالمنطقة إلاّ فرقة الفرسان السّالفة الذّكر، وكانت تحت قيادة قائد العشرة، ولكن بعد إعادة الفرقة الأغسطيّة الثّالثة من جديد عام 253م لم تعد هذه الفرقة على أغلب الظنّ إلى المنطقة لأنّ فرقة الفرسان المقيمة في أبي نجيم ظلّت تحت قيادة قائد العشرة.
     يوجد بين الشقاف المخطوط الذي تمكّنّا من تحديد تاريخه تسع قطع، واحدة تحمل تاريخ عام 253م وأخرى تحمل عام 254م وسبع تحمل عام 259م، وهذه القطع الأخيرة تعتبر آخر الوثائق المكتوبة التي تتحدّث عن "جولا" أبي نجيم في فترة احتلالها من قبل الرّومان. لكن الحفريات التي سوف تجرى بالمنطقة ربّما تكشف عن شقاف أحدث عهد. ويوجد بين الشقاف المهمّة 146 قطعة تتحدّث 113 منها عن الأمور العسكريّة، وقد وجدت بالجزء الجنوبي من مركز القيادة. وهذه المجموعة من الشقاف تعطينا أسماء العديد من الجنود. وقد وجد بعد دراسة هذه الأسماء أنّ حوالي 60% منها أسماء ليبيّة تحمل أسماء ترجع للأسرة الإمبراطوريّة مثل لقب "أوريليوس جوليوس" و40% تحمل أسماء عائلات تتكرّر بكثرة في منطقة أفريقيا الشّماليّة مثل لقب "إيميليوس" و"كايكيليوس" و"كورنيليوس" وبعض هذه الأسماء تحمل ألقاباً محلّيّة مثل "هانيبال" و"تونيلا" و"بوبيوس" و"بوزوريس"، وتوجد أيضاً أسماء محلّيّة أخرى مثل "كريسانس" و"داتيوس" و"دوناتوس" و"روجاتوس".
     كاتب هذه الشقاف المخطوط يجيد اللّغتين الفينيقيّة واللاّتينيّة حيث وجد العديد من الشقاف مكتوباً بهاتين اللّغتين في آن واحد. ويوجد الآن بالمتحف في طرابلس مجموعة من الشقاف المخطوطة لم ينشر عنها بعد كتبت بالأبجديّة الفينيقيّة واللاّتينيّة في نفس الوقت. وقد استعملت هاتان الأبجديّتان في كتابة النّقوش النذرية وكتابة معظم النّقوش التي تتعلّق بالحياة اليوميّة العامّة. ولم يكن ذلك متّبعاً في كتابة النّقوش والشقاف في المناطق المأهولة بالسّكّان النّاطقين باللّغة الفينيقيّة فحسب، بل إنّ السّكّان اللاّتين أنفسهم كانوا يخلطون أثناء كتابة نقوشهم بين الأبجديّة اللاّتينيّة والفينيقيّة. فقد وجدت في "جولا" أبي نجيم رسالة كتبت بالأبجديّة اللاّتينيّة والفينيقيّة. ومن المعتقد أنّ هذه الرّسالة كتبت بيد كاتب أحد قادة الفصائل في أبي نجيم، ومن المعروف أنّ الأبجديّة اللاّتينيّة الفينيقيّة تزيد عن اللاّتينيّة بالحرفين (ش) و(ص)، وقد استعمل الجنود المقيمون بمدينة أبي نجيم الحرفين (ش) و(ص) في كتابة أسماء بعض الأشخاص والمواقع التي تحتوي على حرف من هذين الحرفين، مثل الموقع المعروف قديماً باسم "ايشوبا"، وفي كتابة مقياس من المقاييس يسمّى "ايش داريم".
     لقد كانت اللّغة اللاّتينيّة التي كتبت بها شقاف أبي نجيم هي نفس اللّغة التي كانت مستعملة لدى الجنود الرّومان المقيمين بمصر وسوريا. ونرى أنّ الجنود الرّومان المقيمين بهذه المناطق كانوا يتكلّمون اللّغة اللاّتينيّة واللّغة الفينيقيّة، ولكنّنا نجد أنّ هؤلاء الجنود كانوا يخلطون بين الحرفين (O وU) لقد كان كتاب الشقاف على دراية واسعة باللّغة حيث كانوا يكتبون بدون أخطاء في حين أن الجنود الذين كانـوا يقيمـون فـي الحصون الصّغيرة المحيطة بحصن أبي نجيم كانوا يكتبون بلغة لاتينيّة تكثر بها الأخطاء. وقد وجد الكثير من النّماذج لمثل هذه الأخطاء مثل Bice piciparis بدلاً من Vice principalis  و bone بدلاً من bene وpropositus بدلاً من praepositus، ويلاحظ أنّ الكلمة الأخيرة تعني الرّئيس. ونلاحظ في إحدى الرّسائل أنّ هؤلاء الجنود كانوا لا يعرفون حتّى رتبة رئيسهم المباشر كما نرى في هذه الرّسالة:
Salutem a Gem-
inio Crescente
Un asinu cuis n-
obis atulisti bar
Las decimu cal (endas)
Emit asimu ua-
lias opto te
Bene uale-
RE.
     وفيما يلي ترجمة هذه الرّسالة المخطوطة على الشقاف: يحيّيكم جيمنوس كريسان بتحيّة الصّباح ويقول لكم إنّ الحمار الذي معنا قد اشتراه بارلاس في اليوم العشرين من الشّهر والسّلام. أتمنّى أن تكونوا في صحّة جيّدة. لقد كتبت هذه الرّسالة بلغة لاتينيّة رديئة جدّاً. ولا ندري ما إذا كان هذا الجنديّ يعرف معاني الكلمات التي استعملها. وقد وجدت رسائل شبيهة بهذه الرّسالة في مدينة "دورا" بسوريا.
     يمكن تقسيم الشقاف الذي وجد في مدينة أبو نجيم إلى ثلاث مجموعات مختلفة وهي:


1- التّقارير اليوميّة:
     هذه التقارير تعطينا فكرة عامّة عن التّاريخ وعن عدد الجنود الإجمالي وعدد الجنود الموجودين في موقع أعمالهم وعدد الجنود المرضى مع ذكر أسمائهم وعدد الجنود الذين هم في إجازة وعدد الجنود الذين يقومون بإعداد الحمّامات وإعداد الخبز.
2- الأعمال اليوميّة.
3- قائمة الرّسائل الواردة:
     لقد وجد في مصر برديّة تحتوي على نفس العناصر التي كانت تحتوي عليها شقاف أبي نجيم (راجع P. Gen. lat. 1, CHLA'' 1 No 7). ووجدت أيضاً في مدينة دورا بسوريا برديّتان على جانب كبير من الأهمّيّة لأنّ تاريخها يعود إلى الفترة ما بين 205م – 256م، لكنّ أهمّ تلك الوثائق يرجع إلى الفترة ما بين 219 – 222م. لقد كانت قلعة دورا في سوريا قلعة حدوديّة كقلعة "جولا" أبي نجيم. وكانت النّصوص تكتب في مدينة دورا على أوراق البردي في حين أنّها كانت تكتب في أبي نجيم على الشقاف، أيضاً كان كتاب وثائق دورا أكثر تعليماً من كتاب شقاف أبي نجيم، وكانت التّقارير العامّة تكتب في دورا خلال عدّة أيّام، وكان الكتّاب يحتاجون إلى عشر ساعات على الأقلّ لنقل هذه التّقارير، وكانوا يحتاجون للكثير من الوقت الإضافي لمعرفة أحوال الجنود داخل القلعة، وكانت تلك التّقارير تراقب قبل إرسالها إلى انتيوس عاصمة المنطقة. ومن المعروف أنّها كانت ترسل كلّ أربعة أشهر من أجل استلام رواتب الجنود. ولمّا كانت التّقارير في أبي نجيم تكتب على الشقاف فإنّ كتابتها لم تكن تستغرق سوى يوم واحد فقط. إنّ كثرة الوثائق في مدينة دورا ترجع إلى أنّ المدينة استولى عليها البارثيّون (الفرس) وظلّت التّقارير موجودة في نفس الموقع لكن الجنود الرّومان، عندما خرجوا من أبي نجيم نهائيّاً، أخذوا معهم معظم تقاريرهم المخطوطة على الشّقاف. ومن المرجّح أنّ التّقارير كانت تكتب على الشقاف أيضاً في مدينة دورا رغم أنّنا لم نجد أيّ دليل مادّي يؤيّد هذا الاعتقاد، ولكن يمكن تعليل ذلك بأنّ كتّاب هذا الشقاف محوا كتاباتهم في أوقات لاحقة، وربّما حدث نفس الشّيء في بعض شقاف أبي نجيم.
     إنّ الشقاف الذي عثر عليه في "جولا" أبي نجيم لم يعطنا السّنة التي كتب فيها، ولكنّه كان يعطينا اليوم فقط. وقد عثر على 22 قطعة من الشقاف مؤرّخة ما بين 14 أي النّار (يناير) و24 الكانون (ديسمبر). وتمّ العثور على 40 قطعة من الشقاف بدون أيّ تاريخ. ونلاحظ من خلال هذه المجموعة من قطع الشقاف أنّنا لا نملك أيّ مجموعة نستطيع عن طريقها تكوين تاريخ متسلسل، بل إنّنا لا نعرف هل هذا الشقاف الذي يحمل ذكراً لأيّام الشّهور يرجع إلى سنة واحد أو إلى عدّة سنوات متفرّقة؟ من بين الشقاف الذي استطعنا عن طريقه معرفة التّاريخ الكامل بدقّة، تلك القطعة التي استطعنا أن نقرأ عليها كلمة ad censum (سنسوم)، وهذه الكلمة تعني وقت التّعداد. ومعلوم أنّ آخر تعداد عرفناه في ذلك العصر كان في مصر عام 258م. وعليه فإنّ هذه القطعة تحمل نفس هذا التّاريخ أو تاريخ السّنة التي تليها وهو عام 259م. وقد أعطينا لهذه القطعة رقم (2)، وهي تحمل تاريخ 16 الماء (مايو).
     أمّا قطعة الشقاف رقم (3) فيرجع تاريخها إلى يوم 20 الماء (مايو)، ولسنا متأكّدين إن كانت تحمل نفس السّنة التي تحملها القطعة السّابقة، ولكنّنا بتقديرنا نستطيع أن نعطي لإحداهما التّاريخ 257م أو258م، ونعطي للأخرى التّاريخ 259 أو 260م. وقد استطعنا تخمين هذا عن طريق كلمة وقت التّعداد من جهة، وعن طريق المعلومات المتشابهة الموجودة في القطعتين السّابقتين من جهة أخرى، إذ نجد نفس أسماء الجنود الأصحّاء ونفس أسماء الجنود المرضى.
     استطعنا عن طريق الشقاف المكتشف في أبي نجيم معرفة عدد الجنود المقيمين في هذا الحصن وقد عرفنا أنّ العدد كان يتراوح ما بين 42 و63 جنديّاً أو يبلغ متوسّطهم في الغالب 52 جنديّاً، في حين إنّه يقدّر عددهم في الأوقات العاديّة 80 جنديّاً. ونلاحظ على إحدى قطع الشقاف المخطوط كلمة جديدة تظهر لأوّل مرّة وهي كلمة ليبراريوس Librarius التي تعني الجندي الذي يقوم بتسجيل الحضور والغياب في المعسكر. إنّنا لا نعرف الكثير عن هذا الجنديّ ولكنّنا نعرف عنه أنّه يتقاضى مرتّباً عالياً يعادل المرتّب الذي يتقاضاه الجندي العادي مرّة ونصف مرّة، وعلى هذا كان "الليبراريوس" شخصاً مهمّاً Principalis وخاصّة منذ عام 235م، حيث عرفنا أنّ كان لديه سلطة معاقبة الجندي الذي لا يطيع أوامره العسكريّة.
     لقد عرفنا عن طريق الشقاف المخطوطة أنّ الرّتبة العسكريّة التي تلي رتبة "الليبراريوس"تسمّى أوبتيو Optio، وتعني ملازماً أوّلاً، وقد ظهرت هي الأخرى لأوّل مرّة على الشقاف. و"الأبتيو" يقع تحت سلطة قائد المائة. وفي مدينة دورا بسوريا "الأبتيو" يتقاضى ضعف مرتّب الجندي. أمّا في مدينة أبي نجيم فكان "الأبتيو" يعمل كمساعد لقائد المائة، وعن طريق هذا العمل يمكن أن يصبح في المستقبل قائداً للمائة. يوجد "أوبتيو" يعمل كمساعد لكبار العسكريّين ذوي الرّتب العالية، وعليه فإنّ رتبة "الأبتيو" تعني المساعد خاصّة في قلعة أبي نجيم.
     وتعرّفنا عن طريق الشقاف المخطوط على رتبة عسكريّة أخرى وهي رتبة "بروكيلكاتور"Proculcator . وقد تعرّفنا من قبل على هذه الرّتبة عن طريق الكاتب القديم أميان مارسيليان Ammien Marcellin و"البروكيلكاتور" هو الشّخص الذي يقوم بفتح الطّريق أمام الجنود، وعلى ذلك فهو يتقدّم الجميع أثناء الحرب. وتعتبر هذه الرّتبة من الرّتب العالية وتعتبر الوحيدة في أبي نجيم. وقد ورد اسم "البروكيلكاتور" أكثر من 14 مرّة على شقاف أبي نجيم. ونظراً لأنّ منطقة أبي نجيم لم تكن لديها حروب، فإنّها لم تكن تحتاج إلى شخص يتقدّم جموع المحاربين، ومن ثمّ فقد تغيّرت وظيفة "البروكيلكاتور" التي تتمثّل في التّقدّم أمام الجنود أثناء الحرب إلى استقبال الجنود القادمين حديثاً من خارج أبي نجيم. وتوجد مجموعة من الشقاف تتحدّث عن هذا الموضوع. فنجد مثلاً قطعة الشقاف رقم (5) والتي تحمل تاريخ 16 الصيف (يونيو) تتحدّث عن 96 جنديّاً، ومن بينهم 64 جنديّاً "تيرونيس" Terones (وتعني وصل حديثاً)، ومثل هذه الإشارات تعتبر حالة استثنائيّة في منطقة أبي نجيم، إذ نلاحظ أنّ قطعة الشقاف التي جاء تاريخها بعد يوم 19 الصّيف (يونيو) ذكرت رقم (61) جنديّاً فقط، وعلى هذا فإنّنا لا نجد ذكراّ للجنود القادمين حديثاً إلاّ في تاريخ 16 الصّيف (يونيو) وهو اليوم الوحيد الذي نجد فيه 28 جنديّاً لم يباشروا العمل ولم يكونوا مرضى. ويمكن تعليل هذا بأنً هؤلاء الجنود قد أصابهم الإرهاق بسبب المشي في الصّحراء في يوم شديد الحرارة. ويمكن أيضاً اعتبار هؤلاء الجنود ضيوفاً على قلعة أبي نجيم، ومن ثمّ فإنّه ليس مطلوباً منهم الإقامة الدّائمة، بل ربّما كان المطلوب منهم هو مواصلة السّير إلى جهة أخرى بعد أخذ قسط من الرّاحة.
     وكان يكتب في بداية كلّ تقرير من التّقارير المكتوبة على الشقاف أسماء بعض الفرسان، وهذا طبيعيّ لأنّ هؤلاء الفرسان كانوا يتقاضون مرتّباً يزيد بنسبة النّصف على مرتّب الجندي العادي وهذا الكلام ينطبق أيضاً على مدينة دورا بسوريا حيث كان يوجد مجموعة من الفرسان يسمّون "الديسبوزيتي" Disposite'، وهذه التّسمية تعني الجنود الذين هم دائماً على أتمّ الاستعداد للتّغيير والتّناوب مع زملائهم في مجال الأعمال البريديّة العسكريّة وكانت هناك أعمال أخرى غير ذات أهمّيّة من النّاحية العسكريّة من بينها جنود حرّاس مقرّهم فوق الأبراج المتعدّدة الموجودة بالقلعة De speclis وهناك آخرون اختصاصهم جلب الماء من البحيرة التي تبعد عن القلعة بحوالي 3 كيلومترات، كذلك كان يوجد جنود مهمّتهم جلب الحطب. إنّ هذه الوظائف الأخيرة لم تعد لازمة، فهذه الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الجنود ليست ذات أهمّيّة للجيش الرّوماني. وعلـى ذلك يوجد شخص واحد فقط يعمل كحارس Ad signa . وهذا العمل أشير إليه على الشقاف المخطوطة 4 مرّات على (14) قطعة، ومن المعروف أنّ كلّ المعسكرات الرّومانيّة كان يوجد بها حرّاس شرف مهمّتهم حراسة الحجرة التي تحوي الأعلام والشّارات الرّومانيّة بالإضافة إلى حراسة الخزينة التي تحوي المبالغ المخصّصة للمعسكر. وفي مدينة دورا بسوريا كان يقود هذه المجموعة من الجنود قائد للمائة أو قائد للعشرة وتتكوّن هذه المجموعة عادة من 7 – 9 جنود، لكنّه يلاحظ في أبي نجيم أنً عدد الجنود المقيمين بالمعسكر قليل إذ يبلغ نصف عدد جنود دورا، ومن المؤكّد أنّ المجموعة التي تقوم بعمليّات الحراسة في مدينة دورا أكثر أهمّيّة من المجموعة التي تقوم بالحراسة في أبي نجيم. والخلاصة أنّ الرّجال الذين يقومون بخدمة "الليبراريوس" يشتغلون بالإضافة إلى أعمالهم تلك بأعمال أخرى تخصّ المعسكر.
     وقد ظهرت كلمة جديدة على التّقارير المخطوطة على الشقاف وهي كلمة "كوينتاناري" Quintanari، وعمل هذه المجموعة من الأعمال الخدميّة المهمّة، فمن 23 تقريراً كاملاً وجدنا 5 تقارير فقط لم تذكر فيها هذه الوظيفة. فممّا لا شكّ فيه أنّ الأعمال التي تقوم بها هذه المجموعة من الأعمال المهمّة في المعسكر. ويوجد بالحصن من 12 – 23 "كوينتاناري" وهذا العدد يمثّل ثلث جنود المعسكر. وإذا ما أخذنا في الاعتبار وجود جنود مرضى وجنود لا يقومون بالعمل لظروف أخرى فإنّ نسبة هذه الوظيفة في المعسكر تصل إلى 40% من عدد الجنود.
     ومن خلال إحدى البرديّات استطعنا التّعرّف على أنّ اسم "بروكوينتانيسيو" Proquintanesio وهذا المصطلح صعب فهمه، حيث يوجد مصطلح "لودوس كوينتانوس" Ludus Quintanus الذي يعني ممارسة التًمارين الرّياضيّة على الطّريق العام المسمّى "فياكوينتانا" Via Quintana والذي منه جاءت اللّعبة التي تعرف باسم "كانتين" Quintana.
     وتعتبر الطّريق "كانتانا" الخامسة من حيث الأهمّيّة بعد "الدّيكومانوس" وهي أعرض الطّرق في المعسكر وعرضها 15 متراً وهي تؤدّي مباشرة إلى السّوق.
     لقد أشار المؤلّف اللاّتيني "سيوتون" إلى أنّ كلمة "كانتانا" تعني محلاًّ صغيراً، وفي اللّغة الرّومانيّة الحديثة تعني كلمة "كانتانا" طريقاً صغيراً أو زقاقاً يصل بين منزلين. وأشار قانون جستنيان إلى كلمة "لودوس كوينتانوس" وكانت تعني تمرين لعبة رمي الرّمح. وهذا التّمرين صعب جدّاً وخطير ويمكن ممارسة هذه اللّعبة عبر شارع السّوق، ومن المعروف أنّ هذه اللّعبة لا تمارس في كلّ يوم من أيّام الأسبوع. ففي نصّ قديم يتحدّث عن حياة الإمبراطور "مكسيمينوس" ذكر أنّه أثناء حكم الإمبراطور الاسكندر سيفيروس قبل عام 235م بقليل، وقبل 25 سنة من الشقاف المخطوط بأبي نجيم كان مكسيمينوس ضابطاً يأمر بعمل هذا التّمرين في اليوم الخامس من كلّ أسبوع. ويعتقد الكاتب الألماني "بريميرستاين Premerstein أنّ أصل كلمة "لودوس كوينتانوس" يعني نفس المعنى الذي أشارت إليه البرديّة الموجودة في جنيف والتي تتحدّث عن "بروكوينتانيسيو" Pro quintanesio بمعنى تمرين رياضي.
     هذه البرديّة تؤرّخ بعام 90م، ولذلك فإنّنا نعتقد أنّ "مكسيمينوس" كان قد جدّد تمريناً قديماً. وفي الحقيقة فإنّ التّمرينين السّابقين يختلف كلّ منهما عن الآخر، فكلمة "لودوس كوينتانوس" تشير إلى تمرين خاص شخصي، في حين أنّ التّمرين الذي أشارت إليه البرديّة كان موجوداً أيّام الإمبراطور الاسكندر سيفيروس والذي كان يخصّ اليوم الخامس من الأسبوع فهو تمرين يخصّ مجموعة من الأشخاص. ومن المؤكّد أنّ جنود "الكوينتاناري" هم الذين يقومون بتأدية تمرين اليوم الخامس من الأسبوع. إنّنا لا نستطيع تأكيد ما إذا كان هذا التّمرين مخصّصاً لليوم الخامس من الأسبوع فقط أم لا.
     وفي هذا الخصوص نستطيع القول أنً الإمبراطور "مكسيمينوس" كان جنديّاً ذا خبرة واسعة ويعرف جيّداً أنّه عن طريق هذا التّمرين يستطيع أن يجعل من جنوده رجالاً أقوياء، ولذلك كان يعطي هذا التّمرين الرّياضي خلال خمسة أيّام من أيّام كلّ أسبوع، ولذلك يمكن أن يرى كلّ يوم شخص معيّن يمارس هذا التّمرين. وعلى ذلك فإنّ هذه التّمارين الرّياضيّة كانت تمارس كلّ يوم مع حوالي 20% من جنود "الكوينتاناري".
     في نهاية الجزء الأوّل من التّقارير المخطوطة على الشقاف نجد أسماء الجنود المرضى، وهي الفئة الوحيدة التي تدوّن أسماؤها في تلك التّقارير، وتعتبر هذه التّقارير الوحيدة التي ترجع للفترة الرّومانيّة التي تعطينا العدد الإجمالي للجنود المعافين والعدد الإجمالي للجنود المرضى مع ذكر الأسماء. وقد وصف لنا الدّكتور "جيرميك" مدير قسم تاريخ الطّبّ بالمدرسة العمليّة للدّراسات العليا العلميّة بفرنسا الحياة الصّحّيّة للجنود في مدينة أبي نجيم حيث أشار إلى أنّ النّسبة المئويّة للمرضى كانت مرتفعة تصل إلى 4.6% من عدد الجنود الإجمالي ولكن الدّكتور سالف الذّكر يرى أنّ هذه النّسبة عاديّة لمثل هذه المنطقة الصّحراويّة البعيدة. ويضيف الدّكتور "جيرميك" أنّ حالات المرضى لم تكن خطيرة في جميع الحالات، ويستدلّ على ذلك أنّ جنديّين ويدعيان "كايكيليوس روجاتوس" و"أوريليوس سيلستينوس" كانا مريضين لمدّة طويلة جدّاً، غير أنّ أسماء المرضى الآخرين كانت تتغيّر من حين إلى آخر حيث أنّ هؤلاء لم يكن لديهم مرض خطير. ولاحظ الدّكتور "جيرميك" أنّ نسبة المرضى ترتفع خلال فصلي الرّبيع والخريف في حين أنّها تقلّ في فصل الصّيف.
     والجدير بالذّكر أنّ الجيش الرّوماني كان يعطي إجازة مرضيّة لكلّ جندي يدّعي المرض أو يكون مريضاً مرضاً خفيفاً، وقد تمّ العثور على برديّة تؤكّد هذا الكلام (1467 Pory XII,) ونصّ ترجمة هذه البرديّة على النّحو الآتي: "ثيوناس يحيّي أمّه السّيّدة "تيثيوس" ويقول لها إذا كنت لم أكتب إليك من مدّة طويلة فذلك يعني أنّني كنت في المعسكر وليس بسبب المرض، لذلك لا تقلقي على حالتي، إنّني غضبان لأجلك لأنّك عرفت أنّني مريض، في الحقيقة لم أكن مريضاً جدّاً، وإنّني لأشعر بالأسف أيضاً أن أخبرك بأنّني مريض".
     ونلاحظ في التّقرير المخطوطة أنّه بعد الانتهاء من ذكر المرضى نجد موضوعاً جديداً وهو ذكر الجنود الاحتياطيّين، ونلاحظ أنّ معظم الجنود الذين ذكروا هنا يقومون بأعمال عضليّة فقط دون اعتبار لقيمة رتبهم العسكريّة العالية، وقد أعطيت لهم هذه الأعمال لمنحهم مزيداً من الرّاحة وذلك بسبب رتبهم العالية وبسبب أقدميّتهم في الخدمة العسكريّة أو لأنّهم جنود يحملون رتباً دائمة وثابتة في حصن أبي نجيم مثل "الليبراريوس" و"لابسيو" و"البروكيلكاتور"، وتعتبر هذه الأعمال العضليّة سهلة بالمقارنة بالأعمال العسكريّة.
     ويوجد ضمن نصوص النّقوش المخطوطة على الشقاف مجموعة من الكلمات تشير إلى مجموعة من النّقط المستمرّة، وجدير بالذّكر أنّه يوجد في اللّغة اللاّتينية فعل يعني "ينقّط"، ونلاحظ أنّه عند كتابة اسم جندي ما في قائمة الجنود فإنّ النّصّ يذكر العمل المكلّف به هذا الجندي، فإذا لم يكن لدى الجندي عمل أو كان في وضع احتياطي فإنّنا نجد نقطاً أمام اسم الجندي، وتوجد برديّات عديدة تسجّل نفس النّظام السّابق، ونلاحظ من خلال إحدى البرديّات أنّ الرّجال الذين ليس لديهم عمل كان متوسّطهم 18 جنديّاً، يوجد من بينهم 6 جنود لصناعة الخبز.
     وعن طريق الحفريات التي أجريت في حمّامات قلعة أبي نجيم استطعنا التّعرّف على أنّ الحمّامات تحتوي على أماكن تكفي لاستحمام 100 شخص، ومن المعروف أنّ العدد الإجمالي للجنود المتواجدين في أبي نجيم وصل في فترة من الفترات إلى 500 جندي، وكان هؤلاء الجنود يقسّمون إلى 6 مجموعات عمل، وعلى ذلك فإنّنا نجد 6 تخصّصات مختلفة من العمل في كلّ يوم، ومن المعروف أنّ الحمّامات العامّة بالمعسكر تحتاج إلى مجموعة من الجنود مهمّتهم إيقاد النّار، ومجموعة أخرى مهمّتها تنظيف الحمّامات وثالثة لسكب المياه على المستحمّين، وعليه يجب أن يكون هناك 18 شخصاً جاهزاً لتقديم الخدمات للمستحمّين الذين يصل عددهم في كلّ فترة إلى 80 مستحمّاً.
     وليست لدينا معلومات كافية عن القسم الخاص بإعداد الخبز في قلعة أبي نجيم، لكن لدينا بعض المعلومات عن معسكر الجنود الرّومان المتواجدين "بالراين" بألمانيا، حيث نعرف أنّه في هذا المعسكر كان يوجد مخبز يعمل به شخصان مهمّتهما إعداد الخبز لكلّ قسم من أقسام المعسكر الكثيرة، ومن المعروف أنّ خدمات الحمّامات والمخابز في المعسكرات الرّومانيّة كانت من اختصاص جنود "الليبراريوس".
لقد كانت التّقارير اليوميّة في قلعة أبي نجيم وفي بقيّة مناطق الإمبراطوريّة تكتب على نمط واحد، وكانت تتحدّث عن الحياة اليوميّة للمعسكر وتتحدّث بالخصوص عن الدّور العسكري الذي تقوم به هذه القلعة بالمنطقة، وقد عثر على الكثير من قطع الشقاف المخطوط على شكل رسائل مملاة من أحد الجنود وموجّهة إلى بعض الأشخاص اللّيبيّين الذين يملكون جمالاً.


اسم المكيال وما يعادله باللّتر
لتر
مكيال روماني للحبوب
اسم المكيال والعدد
اسم الجمال
1 سيليسيوس = 1.5 لتر
7875
90
سيليسيوس 7.5
ايديباليس
1 سبيتواليس = 1.5 لتر
945
1.8
سبيتواليس 9
اياسوكاتان
1 سيديبيا = 1.5 لتر
240
24
سيديبيا 2
مكاريوس
1 ازاتويي = 1.5 لتر
262.5
30
ازاتويي 2.5
فلاريوس
1  ؟ = 78.75 لتر
551.25
63
؟  7
فيزينيس فيليوس
1 ايزيداريم = 26.25 لتر
525
60
ايزيداريم
اياميرابان
1 ؟ = 52.5 لتر
210
زيت 16
؟
مكاريوس



     هذه الرّسائل تتحدّث عن كمّيّات القمح التي وصلت المعسكر، وكانت هذه الكمّيّات محدّدة بمكاييل ليبيّة وتقابلها المكاييل الرّومانيّة وهي على النّحو الآتي:
     ويلاحظ أنّ المكيال اللّيبي الواحد = 25 و26 لتراً. ومن خلال هذا يمكن القول بأنّ الجمل يستطيع أن يحمل أربعة مكاييل، ونلاحظ أنّ اسم المكيال يتغيّر من قبيلة إلى أخرى.
     تدلّنا هذه الرّسائل على أنّه كانت توجد عمليّات نقل للمواد الغذائيّة كالقمح والزّيت، كما ورد في القائمة السّابقة، عن طريق الجمال. وحيث أنّ هذه الرّسائل المخطوطة على الشقاف كانت تستعمل المكاييل اللّيبيّة، فإنّنا نعتقد أنّ هذه القوافل من الجمال كانت موجودة بالمنطقة قبل قدوم الرّومان. ومن المعروف أنّ الجيش الرّوماني كان لا يملك الجمال والحمير، ولذلك فإنّه كان يضع يديه عليها بالقوّة وقت الحاجة إليها.
     لقد أمكن التّوصّل إلى وجود علاقة بين حصن أبي نجيم وبين بعض الجنود المقيمين في الحصون التي تبعد عدّة أيّام سيراً على الأقدام. وقد كانت هذه الحصون تسمّى "بواناق"، "ايشوبا"، "هيروزيريان"، "تآسيسيدي"، وهي غير معروفة في الوقت الحاضر، ولكن الدّراسات التي سوف تجرى في المستقبل حول الطّريق الممتدّة من أبي نجيم حتّى القريات ربّما تكشف النّقاب عن هذه الحصون الصّغيرة. والجدير بالذّكر أنّه يوجد تبادل للرّسائل بين حصن أبي نجيم والحصون الصّغيرة المحيطة بالقلعة السّالفة الذّكر.
     لقد كانت الطّريق التي تصل أبا نجيم بالحصون المحيطة به تحت حماية نقاط الشّرطة والجمارك، وكانت مراقبة هذه الجهات قويّة وسهلة التّنفيذ لأنّ المسافرين مضطرّون للمرور عبر الطّريق معناه الضّياع داخل الصّحراء، كما أنّهم كانوا مضطرّين للتّوقّف حيث يوجد الماء، وحيث توجد الحصون التي كانت مهمّتها حمايتهم عبر تلك الطّريق.
     وكانت توجد في قلعة أبي نجيم محطّة لاستراحة القوافل ويوجد خان يستطيع فيه رجال القافلة أخذ قسط من الرّاحة والتّزوّد بالماء ودفع رسوم المرور للمحطّات التّالية وقد كانت هذه الرّسوم معروفة في تلك الفترة حيث كانت تسمّى في مصر باسم ضريبة الجمال.
     وكانت العلاقات جيّدة بين القبائل الجنوبيّة، وكانت هذه القبائل تزوّد قلعة أبي نجيم بالمؤن، وكان الجرامنت والرّومان يتبادلون الرّسائل.
     وكان لقلعة أبي نجيم علاقات جيّدة مع مصر ومع مدينة لبدة، ولذلك كانت إقامة هذه الحامية مستقرّة جدّاً. ولم يكن رحيل الرّومان من المنطقة عقب الإحصاء الذي أجري عامي 258 و259 بسبب صعوبات واضطرابات بالمنطقة، ولكن كان بسبب الاضطرابات التي عمّت الإمبراطوريّة الرّومانيّة في ذلك الوقت.                                                                                                                           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق